الملتقى / أمل منصور المسروريه
سلطنة عمان __ جعلان بني بو حسن
أحسُّ بصداعٍ شديدٍ يا محمد ، سأخلدُ للنومِ مبكرًا ، وانتبه لأخوتك لئلا يعبثوا بالألعابِ فتؤذيهم ، ثمةَ أصواتٍ مزعجةٍ توالت إلى مسمعي حينما توسَّدتُ يميني ، لا بأس سأُحاوِلُ النومَ بعدما أخذتُ حبة البندول ليهدأَ رأسي ، غرقتُ في أحلامٍ عميقةٍ بعد رحلة عناءٍ قضيناها في موسمِ الحجِّ الرائعة ، شريطٌ من الذكرياتِ أسرَ مخيلتي ، أشعلهُ روحانيةٌ من السكينة والهدوء وأنا أتذكرُ الدعواتِ النابعةِ من صميم القلب ، أميالًا من الأشواطِ قطعناها في أداءِ مناسكِ الحج ، هدأ البيتُ كلُّهُ بعدما قام محمد بالواجب ، فأطفأَ جميعَ المصابيحِ وتأكد من تغطيةِ إخوته ، وبعد ساعاتٍ من الليلِ الساكنِ ، استيقظتُ بصوتٍ أثارَ مسمعي ، حركةٌ بطيئةٌ تحدثُ لمحاولةِ فتحِ بابِ الغرفةِ ، حدَّقتُ بعينيَّ لأتأكدَ من ذلك ، التفتُ بِذُعرٍ إلى أبنائي لعلَّ أحدًا منهم خرجَ من الغرفةِ والآنَ يرجعُ إليها ، فابني الصغير لا يقوى على مسكةِ البابِ بتلك السرعة التي نمتلكها نحن الكبار ، يا إلهي ، أبنائي الأربعةُ في أسرَّتِهِم ، بينما تنامُ الصغرى بجانبي ، ربما أتوهَّمُ بذلك ، كلا ، ما زالت محاولةُ فتحِ البابِ مستمرةً ، وصوتُ المحاولةِ يرنُّ في أُذني بمثلِ زمجرةِ موتٍ غامضة ، استجمعتُ قِوايَ لأنطقَ بكلمة مَن ؟ أعيدُها مَن ؟ اصطكت أسناني رُعبًا من منظرٍ سيءٍ سأراهُ الآن ، من سينقذَني ؟ من سيحمي أولادي ؟ كلُّ أدواتِ الاستفهامِ تصارعت في عقلي ، أيُعْقلُ أنْ أُلاقي حتفي الليلة ! لا لا لن استسلمَ للموت ، انفتح البابُ بعد عناءٍ وتوترٍ شديدٍ ، تجمَّدَ الدمُ في عروقي لِمنْ سيفتحُ الباب ، وفجأةً وقعت عينايَ على أقدامٍ سوداءَ مُغْبرَّةً بالأتربة وأظافرَ مُتكسِّرة ، صعدتُّ النظرَ وجسدي مشلولُ الحركةِ لأجدهُ شخصًا حالكَ السوادِ ومنفوشَ الشعرِ بلا كساءٍ يستُرهُ سوى شعرٍ مُجعَّدٍ كالظلِّ يُغطيه، تسمَّرَ ينظُرُ إلي ، أطلقتُ صرخةً مُدويةً من أحشائي الممزقة ، أخرجَتْ معها روحي المُتعبةُ فاقدةً الوعيَ بما يحدُث ، بعدَ بِضعِ دقائقَ من الذعر والهلعِ الذي كاد يخنِقُني ، عاد الدمُ لأوردتي ورجعت روحي لمسكنها وانتبهتُ لنفسي الخائفة ، فتلفتُّ يمنةً ويُسرةً بأن الذي حدث واقع وليس محض خيال ، فكرتُ لبرْهةٍ عمَّا يجبُ أن أفعله ، فالبابُ أمامي مغلقٌ ولا يوجدُ أي شخصٍ هناك ، أمسكتُ الهاتفَ لأتصلَ بجاري وأُخبرهُ بالذي حدث ، هرولَ مسرعًا إلى بيتي وبيده سكينهُ الخاصة ، وبعدَ التحاورِ معهُ ونحنُ نتقصَّى كلَّ رُكنٍ ومخبأٍ بحثًا عن الشبحِ الأسود ، أحسستُ بأنَّ الذي رأيتُهُ سراب ، رُبَّما الألمُ الذي أُعانيه أحدثَ هلوسةً ليلية ، فأكدتُّ لهُ أن ذاك مشهدٌ خيالي لا حقيقةَ لشبحٍ أسود ، غادرَ جاريَ البيت غيرَ مقتنعٍ بإحساسي ، فقالَ لي : ولكني وجدتُ البابَ الرئيسي مفتوحًا ، ما تفسيرُ ذلك ؟ هززتُ رأسي لا أدري ، لم أنوِ أن أشغلَ تفكيرهُ أكثرَ من ذلك ، مرَّتْ الأيامُ وأنا أبْذلُ الجهدَ في مذاكرةِ دروسِ أبنائي ، وقرب انتهائي من تدريسهم قمتُ لأُطْفِأَ المصباح ، كومةٌ من السوادِ انزاحتْ فجأةً من النافذة ، ما هذا ؟ أيُعقلُ أن يكونَ الشبحُ عاد مرةً أخرى ، يا محمد ، أغلقْ الستارةَ جيدًا ، فالظلامُ مفيدٌ لصحةِ أعيننا أثناءَ النوم ، لم أرغبْ أنْ أشغلهُ هو الآخرُ بأوهامي ، رجعتُ مرةً من العملِ ليحاورني ابني تميمُ بأنَّ بيتنا مسكونٌ بالجنِّ ، فقدْ لحظَ شبحًا أسودًا يمرُّ أمامهُ ، حدَّثتُهُ ألَّا يأْبهُ بما شاهدهُ ، فهو مجردُ وهم ٍ لا أكثر ، أشغلني موضوعُ الشبحِ الأسودِ أكثر ، لِتُخبرني العاملةُ أنها رأتهُ في دروةِ المياه ، طلبتُ من ابنِ أخي المبيتَ عندي لأجدَ تفسيرًا لما نراه ، في صبيحةِ اليومِ التالي أخبرني أن الشبحَ دخلَ المنزل ، وأنهُ حقًا شخصًا حقيقيًا يتعمَّدُ التجوُّلَ بتلكَ الهيئةِ المُزريةِ لينالَ أمانًا من صاحبة البيت ، اندفعتُ قائلةّ : وما ذنبي أنا إن كان يُعاني نقصًا في حياته ؟ فردَّ عليَّ : بأنَّهُ شخصٌ فقدَ عقلهُ بعدما توفيَ والديه ، وإخوتُهُ انشغلوا عنهُ وأهملوه ، فهو الآن يتقصَّى المنازلَ التي يسمعُ عن سفرِ ربِّ البيتِ أو موتِه أو انفصاله ، انتابتني لحظتها رحمةٌ لحالهِ ، فحدثنا إخوته عن مشكلته وأنه يحتاجُ اهتمامهم ، فتراجعَ الشبحُ الأسودُ عن المجيءِ.