حين تبتسم الخيانة

حين تبتسم الخيانة

  • السبت 26 يوليو 2025
  • 05:19 AM


الملتقى / د. طالب بن خليفة الهطالي

في دهاليز التجربة الإنسانية لا تخيفنا السيوف إذا شهرت في وجوهنا؛ فالمكشوف لا يرعب الروح التي اعتادت المواجهة؛ إنما الفاجعة الحقيقية تسكن في الخنجر المخبوء خلف مصافحة دافئة، وفي ابتسامة توهمنا بالأمان، بينما تحت الجلد تكمن النوايا المسمومة. تلك هي الخيانة التي لا تعلن عن نفسها، بل تتسلل من منافذ الطمأنينة، تمشي على أطراف النعومة، وتختبئ في ملامح من ظن يوما أنهم ملاذ وأمان.

لسنا نخذل من خصومنا؛ فعدونا لا يخفي وجهه، بل الطعنة التي تهز الثقة هي تلك التي تأتي من الذين وسعنا لهم صدورنا وفتحنا لهم أبواب القلب دون حراسة. أولئك الذين منحناهم مفاتيح أرواحنا بكرم صاف، فدخلوا إليها لا ضيوفا بل كمن اعتاد الملك، ثم غادروا بصمت وقد نزعوا معهم دفء الثقة وملامح الطيبة التي لم تعرف الحذر.

إن الخيانة حين تبتسم لا تجرح الجسد، بل تحدث في الروح شرخا صامتا، وتترك في الذاكرة ندوبا لا ترى؛ لا تصرخ، بل تهمس في الأعماق بصمت مثقل ينهك الوجدان ويبعثره، إذ تعيدنا إلى لحظات الغفلة، وتوقظ فينا مشاهد السذاجة التي لم تمحص، والثقة التي أعطيت بلا عقد ولا شرط، والكرم الذي فاض من القلب قبل أن يطرق باب الحذر.

إنها طيبة قدمت بسخاء، وغفلة تسللت في غياب اليقظة، لتصير الروح عرضة لخذلان ناعم لا يشفى منه بسهولة. ومع ذلك فإن الألم مهما اشتد لا ينبغي أن ينبت الحقد، بل الوعي؛ لا أن يولد المرارة، بل الحكمة؛ ففي عمق الخذلان تبدأ مرحلة النضج الحقيقي؛ حيث لا تبنى الأسوار من الخوف، بل من البصيرة؛ ولا تغلق الأبواب نكاية، بل لتعاد صياغة مفاتيحها وفق فهم أعمق للذات وللآخر.

ومن رماد الطعنة لا ننهض لنثأر، بل لنتهذب كي نعيد رسم ملامحنا بهدوء، لا بفوضى الانكسار، ولنرتب أرواحنا كما يرتب الفيلسوف أفكاره بعد عاصفة معرفية؛ فالحياة لا تنتظر اعتذارا من الغادرين، بل تستدعي بناء جديدا للوعي، أكثر رصانة، أقل طيشا، وأصفى نبلا. وليس الغرض من هذا التأمل سرد حكاية خذلان، بل الوقوف على مواضع الهشاشة فينا حين يخذل الصدق لا لذنب اقترفه، بل لصفاء لم يقدر. إنها لحظة مراجعة عميقة لعلاقتنا بالثقة والكرم والاقتراب من الآخر؛ حيث تتجلى فجيعة الطيبة حين يطعن النقاء في غفلة، وتبقى آثار العطاء المنهك في الذاكرة دون صوت، سوى صدى خافت يسكن الداخل.

إن الطيبة ليست عيبا ولا ثغرة في الذات كما يظن البعض؛ بل هي صفاء فطري لا يتنكر له من ظل قلبه حيا؛ وليست كل ابتسامة ترجمة لمودة، ولا كل انحناءة دليل تواضع؛ فبعض الوجوه تجيد التمثيل، وبعض القلوب تخفي ما لا تظهر، وأقسى الخيانات ما يمارس بوجه باسم وصوت رخيم، وبكلمات تشبه الدعاء لكنها تخفي السم في لبها. قال الله تعالى: ﴿وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ﴾؛ يتظاهرون بالقبول، وفي قلوبهم نار لا تطفئها المحبة، بل يزداد أوارها كلما أكرموا وليس أدل على هذا من قول العرب قديما:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة :: فلا تظنن أن الليث يبتسم
فالود حين يصير قناعا، يصبح الابتسام بداية الطعن، لا خاتمة الصفاء، وقد بلغ المتنبي لب هذه الحقيقة حين قال:    

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته :: وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فاللئيم لا يرى في الإكرام محبة، بل فرصة للهيمنة؛ ولا في الثقة ودا، بل ثغرة يحسن النفاذ منها. إن الوجع هنا ليس في فعل الطعن، بل في شكله، هادئ، ناعم، يأتيك من أقرب الأبواب وأنت منشغل بفتح القلب لا بإغلاق الحذر؛ فالخيانة لا تحتاج إلى عنف، بل إلى ابتسامة تقال بمكر، وكلمة تلقيها يد خبيرة، وعينين تلمعان دون صفاء.

وهنا يمكن القول إن الطيبة لا تلام في ذاتها، وإنما يساء فهمها حين تمنح بلا تمحيص؛ ليست كل يد تمد للمصافحة تجيد الصدق، ولا كل ملامح ساكنة يسكنها السلام؛ الفرق بين الطيبة والسذاجة رفيع، كالخيط بين الماء والنار؛ الطيبة صفاء عن وعي، أما السذاجة فهي تخل عن الحذر باسم النقاء. إن الطيب الحقيقي لا يغفل الإشارات، ولا يفسر الصمت على أنه رضا، ولا يمنح قلبه بلا أبواب. وقد أبدع الإمام الشافعي في التعبير عن هذا الميزان حين قال: "من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان"؛ إشارة دقيقة إلى أن ضبط الطباع لا يعني انطفاء الفراسة، وأن الحياء لا يعني التحول إلى أرض مستباحة.

قال الله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾؛ وإن كانت هذه الآية في ظاهرها عن المال، فإن معناها أوسع: عن كل عطاء غير موزون، وكل طيبة بلا عقل، وكل ثقة بلا بصيرة. فالقلوب بيوت؛ لا ينبغي أن تكون بلا أبواب، ولا أن تسلم مفاتيحها لكل من يجيد الابتسام؛ المشكلة ليست في الكرم، بل في فوضى الكرم، حين يمنح بلا تمحيص، وحين تفتح المساحات لمن لم يختبر وجهه في الظل؛ من يملك قلبا طيبا لا يطالب بإغلاقه، بل بترتيبه؛ مفاتيح القلوب لا تعطى لمن يجيد الكلام، بل لمن يجيد الثبات، ويجعل من حضوره أمانا، ومن غيابه وفاء.

إن النضج لا يعني التجمد العاطفي، ولا بناء أسلاك من الشك؛ بل أن نحب الآخرين، لكن بعد أن نحب أنفسنا بما يكفي لحمايتها من الانتهاك العاطفي؛ فالطعنة لا تأتي من الخارج، بل ممن دخل دون اختبار، وعبث بما لا يعبث به، ثم خرج دون أن يلتفت. وفي نهاية المطاف، لا نحتاج إلى أن نصمت أو نصرخ؛ بل إلى أن نميز؛ أن نحسن بلا غفلة؛ ونضيء دون أن نحرق؛ فالمفتاح، وإن كان رمز المحبة، فإنه لا يسلم إلا لمن يستحق الدخول.

 

اشترك الآن في النشرة الإخبارية

نشرة اخبارية ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني يومياً

العوده للأعلي